السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي

في إطار البحث الفلسفي المعمق حول السيرة النبوية، ألقى الأستاذ الدكتور طه عبدالرحمن محاضرة قيّمة بعنوان « السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي »، حيث قدم فيها قراءة فلسفية جديدة للسيرة تعتمد على منهج أخلاقي تأويلي، متجاوزًا المناهج التقليدية التي اعتمدها المحدثون والمؤرخون والفقهاء. في هذا المقال، نستعرض أبرز الأفكار التي طرحها المحاضر وأهميته في إعادة النظر في السيرة من زاوية فكرية جديدة.

أهمية السيرة النبوية ورؤيتها من منظور فلسفي

أكد الدكتور طه عبدالرحمن أن السيرة النبوية ليست مجرد أحداث تاريخية، بل هي مصدر متجدد للقيم الأخلاقية والكمالات الإنسانية. فهي كلمات حية لا تنفد، تحوي في طياتها دلالات ومعانٍ يجب استكشافها بعمق، وليس الاكتفاء بقراءتها كنصوص سردية جامدة.

وأشار إلى أن الإنسان بطبيعته محدود في فهمه، وهذا ما أدى إلى تنوع المناهج التي تعاملت مع السيرة، إذ اعتمد المحدثون على التحقيق في الأسانيد، والمؤرخون على ترتيب الوقائع، والفقهاء على استخراج الأحكام الفقهية. لكنه يرى أن هذه المناهج الثلاثة لا تكفي وحدها لاستيعاب عمق السيرة، مما يفتح المجال لاعتماد منهج جديد يعتمد على التفكير الفلسفي والأخلاقي.

المبادئ الثلاثة لدراسة السيرة النبوية

طرح الدكتور طه عبدالرحمن ثلاثة مبادئ أساسية كمنهج لدراسة السيرة النبوية، وهي:

مبدأ التفكر بدلًا من التفكير: يرى الدكتور أن التفكير يهتم بالنظر في الأشياء لذاتها، بينما التفكر يهتم بربط الأشياء بالإنسان. ومن هذا المنطلق، يجب أن ننظر إلى السيرة باعتبار علاقتها بالتجربة الإنسانية وأثرها في تهذيب الأخلاق وتطوير المجتمعات.

مبدأ اعتبار الآيات: كل شيء في الكون هو آية من آيات الله، وليس مجرد ظاهرة سطحية. ويشير إلى أن هناك فرقًا بين الظواهر الطبيعية والآيات التي تحمل معاني وقيمًا أخلاقية وروحية. ومن هنا، تصبح السيرة النبوية كتابًا مفتوحًا للآيات التي يجب التدبر فيها.

مبدأ الأخذ بالمواثيق: يعتمد فهم السيرة النبوية على عدة مواثيق قرآنية، وهي:

  • ميثاق الإشهاد: شهادة البشر على ربوبية الله.
  • ميثاق الاستئمان: تكليف الإنسان بحمل الأمانة.
  • ميثاق الإرسال: تكليف الأنبياء بتبليغ الرسالة.
  • ميثاق الاختصاص: تميز الرسول محمد ﷺ بخصائص فريدة.

التأويل الأخلاقي للسيرة النبوية

أوضح الدكتور طه عبدالرحمن أن التفسير التقليدي للسيرة يعتمد غالبًا على بيان الأسباب الظاهرة والموضوعية للأحداث، بينما يحتاج الباحث إلى التأويل الأخلاقي الذي يركز على استكشاف القيم والمقاصد الروحية الكامنة في السيرة. وبهذا، يبتعد عن التأويلات السطحية التي تميل إلى الجمود، ويركز على التأويل الائتماني الذي يبرز العمق الأخلاقي للسيرة النبوية.

اختتم الدكتور طه عبدالرحمن محاضرته بالتأكيد على أن السيرة النبوية ليست مجرد وقائع تاريخية، بل هي مصدر متجدد للمعرفة الأخلاقية والفلسفية، وينبغي التعامل معها بتدبر وتأمل يتجاوز حدود الروايات السطحية. من خلال تبني منهج تفكري وتأويلي، يمكن لنا أن نستخرج من السيرة دروسًا تلهمنا في بناء القيم المجتمعية وتوجيه السلوك الإنساني نحو الخير والفضيلة.

إن هذه القراءة الفلسفية الجديدة تفتح آفاقًا واسعة لفهم السيرة النبوية بمنظور يتجاوز حدود الزمان والمكان، ليجعل منها مصدر إلهام مستدام في مسيرة الإنسان نحو الكمال الأخلاقي.