"كل شيء مذكور في الرواية عن تاريخ التزوير والوثائق المزورة هو حقيقي. لم أخترع شيئًا، بل جمعت الحقائق وربطتها بسياق سردي يجعلها مفهومة أكثر".

عندما يتناول الأدب التاريخي موضوع التزوير، المؤامرات، والمعتقدات الزائفة، فإن الأمر يتجاوز كونه مجرد قصة شيقة إلى كونه تحليلاً دقيقًا لكيفية تشكُّل الأفكار التي تؤثر على الواقع السياسي والاجتماعي. هذا ما قام به الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو في روايته الشهيرة « مقبرة براغ » التي نُشرت عام 2010، حيث يستعرض بطريقة سردية متقنة كيف يتم التلاعب بالتاريخ، وكيفية اختراع الوثائق المزورة التي تؤثر على مصير أمم بأكملها.

نبذة عن الكاتب: أمبرتو إيكو

ولد أمبرتو إيكو عام 1932 في إيطاليا، وكان مفكرًا متعدد التخصصات يجمع بين الفلسفة، السيميائيات، والتاريخ، والأدب. عُرف بأعماله التي تربط بين البحث الأكاديمي والرواية، وأشهرها « اسم الوردة » التي حققت نجاحًا عالميًا. كان إيكو ناقدًا قويًا للمغالطات الفكرية، ونظريات المؤامرة، وله عدة كتب تناولت موضوع التزوير والتضليل الإعلامي. لم تكن « مقبرة براغ » مجرد عمل أدبي، بل كانت تحقيقًا في كيفية نشأة الأكاذيب، ومدى تأثيرها في تشكيل التاريخ.

أسباب تأليف الرواية

لم تكن « مقبرة براغ » عملًا عابرًا بالنسبة لإيكو، بل كانت امتدادًا لاهتمامه الدائم بكيفية تشكل الأفكار المسبقة، وانتشار الأكاذيب، وتأثير الوثائق المزورة على المجتمعات. في عدة لقاءات، صرّح إيكو أنه استوحى فكرة الرواية من « بروتوكولات حكماء صهيون »، التي تعتبر من أشهر الوثائق المزورة في التاريخ الحديث، والتي كان لها دور كبير في تأجيج معاداة السامية، وساهمت لاحقًا في سياسات النازية وإبادة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية.

إيكو أراد من خلال الرواية أن يُظهر كيف يمكن ل « الكذبة المنظمة » أن تتحول إلى « حقيقة اجتماعية » يصدقها الناس، حتى وإن كانت مختلقة بالكامل.

ملخص الرواية: البطل المزوِّر وسر الأكاذيب الكبرى

تدور أحداث الرواية حول سيمونيني، رجل إيطالي ولد في مدينة تورينو عام 1830، تربّى في كنف جده الذي زرع فيه كراهية عميقة تجاه اليهود. هذا التأثير جعله مؤمنًا بأن اليهود يديرون العالم من خلال منظمات سرية، مثل المتنورين وفرسان الهيكل واليعاقبة. بعد دراسة القانون، تعلم سيمونيني فن تزوير الوثائق وأصبح أحد أهم المزورين في أوروبا. تدريجيًا، ينخرط في عالم الاستخبارات والتجسس، حيث يعمل لصالح عدة جهات، مثل حكومة بيدمونت الإيطالية، والمخابرات الفرنسية.

نقاط محورية في الرواية:

التجسس والتزوير:

    • يتم تكليف سيمونيني بمهمات متعددة، منها التجسس على جوزيبي غاريبالدي خلال محاولاته لتوحيد إيطاليا.

    • يعمل لاحقًا مع المخابرات الفرنسية، ويتورط في أحداث بلدية باريس (1871)، وهي انتفاضة اشتراكية قصيرة العمر.

    • يشارك في قضية دريفوس، وهي فضيحة شهيرة اُتُهم فيها ضابط يهودي بالخيانة.

كتابة الأكاذيب:

      • أثناء عمله كمزور، يبدأ سيمونيني في اختلاق قصص تعتمد على الخيال والتزييف التاريخي.

      • يستخدم شخصيات تاريخية معروفة، مثل ألكسندر دوما، في عمليات التزوير.

      • في النهاية، يُبتكر ما أصبح يُعرف بـ « بروتوكولات حكماء صهيون »، والتي يتم تصويرها على أنها « وثيقة سرية » لاجتماع قادة يهود في مقبرة براغ يخططون فيه للسيطرة على العالم.

انعكاس الرواية على الواقع:

    • يشير إيكو إلى أن هذا النوع من الأكاذيب تحول لاحقًا إلى أداة سياسية استخدمها النازيون، مثل أدولف هتلر، لتبرير المحرقة ضد اليهود.

    • الرواية تسلط الضوء على أن هذه المغالطات الفكرية لا تزال مستمرة، حيث يتم إعادة تدوير الأكاذيب القديمة بشكل جديد عبر وسائل الإعلام والمجتمعات.

كيف علق إيكو على الرواية؟

أكد أمبرتو إيكو في أكثر من لقاء أن جميع شخصيات الرواية، باستثناء البطل، هي شخصيات تاريخية حقيقية، مما يضفي على العمل بُعدًا وثائقيًا. كما قال:

« كل شيء مذكور في الرواية عن تاريخ التزوير والوثائق المزورة هو حقيقي. لم أخترع شيئًا، بل جمعت الحقائق وربطتها بسياق سردي يجعلها مفهومة أكثر ».

كما أشار إلى أن الهدف الأساسي من « مقبرة براغ » هو إظهار كيف أن الأكاذيب تُبنى على الأكاذيب، وكيف يمكن لمعلومات مزيفة أن تشكل أيديولوجيات خطيرة تستمر لعقود.

ما رأي النقاد والمثقفين في الرواية؟

  1. وُصفت بأنها « تحفة أدبية » تجسد فن المزج بين التاريخ والخيال.

  2. قال الناقد الفرنسي برنارد بيفو: « لم يسبق لرواية أن فضحت بهذا الشكل كيف تُخلق الكراهية وتُصنع الأكاذيب ».

  3. اعتبر بعض النقاد أن الرواية تحدٍ للقراء بسبب تعقيدها وكثرة الشخصيات الحقيقية فيها.

  4. فيما قال المؤرخ روبرت داونز: « الرواية ليست مجرد عمل أدبي، بل هي درس في كيف يمكن للأيديولوجيا أن تبنى على لا شيء سوى الخيال المريض ».

« مقبرة براغ » ليست مجرد رواية تاريخية، بل تحقيق أدبي في كيفية اختراع الأكاذيب وصنع المؤامرات. من خلال شخصية سيمونيني، يوضح إيكو كيف أن الكراهية ليست وليدة الصدفة، بل تُصنع عن طريق تزوير الحقائق ونشر الخوف. إنها تحذير لكل من يصدق الأخبار الملفقة والمعلومات المشوهة دون أن يتحقق منها.

إن كنت تبحث عن رواية تجعلك تفكر، وتحلل، وتعيد النظر في كيفية قراءة التاريخ، ف »مقبرة براغ » هي الخيار المثالي. ليس فقط لأسلوبها الأدبي المتميز، ولكن لأنها تكشف كيف يمكن للأكاذيب أن تصبح حقائق، وكيف تتحول المؤامرات إلى سياسات تؤثر على العالم.